توارىْ

1

المبروك درباش

واستعمل «السكايب» ليخبر أتباعه في مدننا، أن يرجموا أشياءنا القديمة، التي لطالما لعبنا حولها دون أن نعي كثيراً من معالمها. أنه يخشى ذات ليله، ذات وعكه، أن نسجد لها.

لم يكن حواراً لذيذاً، لم أكن متلهفاً لألفظ أياًّ من ردودي المشاكسة أو الملتحفة بالنص، كانت جلسة عوراء، منتهى رؤيتها رأس أنفها، ومجالها كلمات سُمعت ذات شتيمة، ذات انتكاسة لكل العقول وكل الثمرات البديعة. أبداً لم تكن كجلسات البدايات الكريمة ولا النهايات الوديعة، هكذا نُزلت، مِلْظَاظَة، ملعاة كشاة العيد، متراخيةٌ محاسنها، هكذا كُتبت على ألواح موسى، بائع «السمينسا» التونسي، ونطقَهَا واعظ «بالخير»، الحاج بوذا، أسرع من يلعب «أُم السبع». كانت جلسة مريضة، كأرضنا، وكنتُ مُرهقاً، عليلاً، قلبي على وطني، على مدينتي، التي جُبتُ أزقتها، وأعرف ثنايا تراكينها وملاذاتها، أعرف أين تسكن بناتها الجميلات، وأمهاتهن الصاخبات، هذي الغيلان اليقظة.

كنت قد ازددتُ يأساً باللحظة، كان الفتي ودوداً أحياناً، أعرف هذا لأنه كان يناديني أستاذ مبروك، وأحياناً دكتور مبروك، علامات الاحترام السهل السهْب في ليبيا. كان يفعل ذلك وهو يخرج ما في جعبة شيخهِ من أحاديث وعناعن، تدحض ما أعرف وأقول، كانت لحظات الإخراج هذه كالتوليد العسير، يصير نطقها فظاً، خليجيّ النبرة، آمراً بشيء ما، قلقٌ فهمه، وعرٌ، لا يمتثل لجغرافيتنا، بقعتنا، سَهْلة الخَدَّين تلك.

– «نحن نخشى أن تعبدوها».

– «أنتم تخشون؟».

إجابتي كانت موقدة:

– «من أنتم؟».

هذا السؤال الممتلئ بأشياء وأشياء، احتفى حنقي المزدحم، إنهم الأوصياء على عقولنا اليوم، لقد نصبهم كُبراؤهم أئِمَّةً للإرادات، وسلاطين للضمائر، وجلادين للشهوات. ولكي لا تلتهمني شهوة عبادة تماثيل المدينة، هاهو ملتحٍ نواحي مكة يمنع عنّي النار، ويزلفني لأنهار العسل واللبن، كما فعل، من قبلهِ، الحشاشون، حذو قلعة آلموت. هاهو هذا الانبعاث «السكايبي»، يكتنز شرعيته من سكناه قرب عقار مقدس، يفلفل لحيته المبعثرة علي الوجه الأقرب إلى الهندي أو البنغالي، قصيراً منتفخاً، وكأنه بئر لأرز «الكبسة». صرخ وبانت أسنانه المتآكل بياضها، كأنها حُكت بقداسة.

– «أرجوك. لا تنعت عُلماءنا بالحشاشين، إنهم لا يدخنون».

لم تكن لدي رغبة في السخرية من ابن مدينتي الملتحي. لم ولن يكون هو عدوي، فأنا لا أبحث عن عداءات البلهاء، ليس تعجرفاً، بل رفقاً بكائنات مدينتي. عذراً «ولد شارعي»، المدينة تأبى التواري، تأبى أن تُدك، أن تُصبح ملاذ الغربان الفَليقَة. يا ابن هذي الفسيفساء، لمدينتي قصة أُخرى، لن يكتبها ابن سائق أُمهِ، لن يُعريِّ حشمتها نديم البلاط، ويقبر دلعها الأنثوي الأبغث. فأنا لن أذهب بعيداً بعد اليوم، سَهْلُ الوجه أنا، وأترككَ لهم، يسرقونك منا.

  • الأرض المريضة: التي كثرت فيها الفتن.
  • سَهْلة الخَدَّين: كالسجحاء، تنساب عليها الماء بسهولة.
  • سَهْلُ الوجه: غير ممتلئ الوجه.

طرابلس

  1. 06. 12