يوسف القويري: لا طقوس للكتابة

1     11

حاروه : محمد الجنافي

قبيل الحوار معه وأنا أهم بصعود السلم إلى شقته بشارع عمر المختار خالجني شعور غامر بغبطة عارمة، وأنا أتصور فرحة قرائه الذين ينتظرون إطلالته ويترقبون جديد إبداعه. كان سؤال ملح يكدّر نشوة اللقاء به: هل نحن من غاب عن أدب يوسف القويري أم أنه الغائب الذي قرّر أن ينزوي متحصناً بثقافته ضد ما يحدث أمامه؟
لم يبدّد ما بدا لي من إجابات لا تقل قلقاً وغرابة عن الأسئلة سوى رؤية الأستاذ يوسف يترقبنا في الموعد أمام باب شقته، ولدى جلوسنا ونحن نمهّد لحوارنا بتجاذب أطراف الحديث عن الكتابة وهمومها أشار إلى أوراق كانت على الطاولة وقد تضمنت نصاً عن “نشأة القصة القصيرة” ضمن سلسلة قراءات أدبية ستنشرها له صحيفة الأيام لليبية (التي ننقل عنها هذا الحوار).

ورغم ما بدا على الأديب يوسف القويري من أعراض مزمنة ومتقدمة لحالة الروماتزم التي يعانيها منذ سنوات، وما أحاطه من بساطة العيش في شقته المتواضعة إلا أن حضوره الغامر لا يلبث أن يأخذك بعيداً ، فلا تملك معه سوى السفر عبر كلماته نحو روعة عوالم فكره وأدبه.

الجنافي: كأي مفكر وأديب ثمة بدايات مبكرة أسهمت في تكوين فكر وأدب يوسف القويري. متى بدأت وكيف كانت؟

القويري: البدايات في واقع الأمر كانت في مصر، فأنا مولود في المهجر المصري سنة 1938، وتلقيت تعليمي هناك، وعدت إلى الوطن في 1957، وهي بدايات في الصحف المطبوعة وفي صحف الحائط والصحف اليدوية التي كانت تكتب باليد، وقد كانت هناك جرائد إقليمية مطبوعة تصدر في الأقاليم، ومنها جريدة اسمها “كوكب الوادي” كانت تصدر في المنيا، وكان صاحبها شبه أعشى، وهو الأستاذ زكي التهامي، وكان في حينها عضواً في نقابة الصحفيين، والعضوية في نقابة الصحفيين تعني الكثير في واقع الأمر في تلك الآونة بالنسبة لمصر بالذات، فهي ليست مثل الآن، وكانت الجريدة مكونة من ستة أو سبع صفحات، ونشر في صحيفته أنه في العدد القادم هناك صفحة أدبية سيشرف عليها يوسف القويري، وفعلاً بدأت النشر فيها سنة 1952.

أما من حيث النصوص التي تأثرت بها، والكتّاب الذين قرأت لهم، فقد كانت هناك صحف ومجلات يدوية تتم كتابتها باليد، مثل مجلة “لواء الأحرار”، وهي مجلة تصدرها جمعية الإخوان المسلمين أيام الإمام البنا ، وكان الإمام يأتي للمدينة التي كنت أقيم فيها، وهي مدينة بني مزار، وقد كنت أكتب باباً في هذه المجلة متضمناً انتقادات اجتماعية ونصوصاً من هذا القبيل.. ثم بدأت التأثر بالأستاذ سلامة موسى، وهو قد كان يكتب في “النداء”، وهي صحيفة كبيرة في القاهرة، نشرت لأغلب الكتّاب المعروفين. لقد كنت أقرأ له والتقيت به فيما بعد، وهو يعتبر موجهاً لي. وهذه الفترة المبكرة التي تسألني عنها أسميتها فترة الاتجاهات المتقاطعة.

الجنافي: قطرات من الحبر، الكلمات التي تقاتل، من مفكرة رجل لم يولد، خيوط رفيعة، في الأدب والحياة، مدخل إلى قضية المرأة… وغيرها. كل ما اندرج تحت هذه العناوين من نصوص أدبية ودراسات شكلت إبداعكم عبر جنسين إبداعيين هما المقالة والقصة القصيرة.. أين وجد القويري نفسه؟

القويري: كنت في الواقع أريد أن أجد نفسي في القصة القصيرة، ولكن ساقتني الأحداث والضرورات إلى المقالة ومن ثم البحث الذي يكون بصيغة مقالة أدبية، وآمل أن أكتب الرواية ملبياً نصيحة الأستاذ عبدالوهاب البياتي التي قالها مناشداً أصدقاءه في القاهرة الذين نقلوا لي قوله.. “متى تكتب الرواية التي تضع فيها تجاربك”؟

الجنافي: “ابحثوا عن يوسف القويري”، “ماذا حدث ليوسف القويري”.. دعوات أطلقها قراؤك ومتابعوك وقد صيغ بعضها كعناوين لقراءات في أسباب غيابك كتبها عنك أقرانك من أعلام الأدب الليبي. هل وجدوك؟ وهل عرفت تساؤلاتهم وقراءاتهم طريقها إليك؟

القويري: في الواقع أنا قليل النزول إلى الشارع، فأنا طريح الفراش بتأثير التهاب المفاصل الذي أعاني منه منذ سنوات، وفي كل الحالات ومهما كانت الظروف ينبغي أن يستمر المرء في القراءة والإنتاج وهذا بديهي تماماً وصحيح.

الجنافي: ليوسف القويري مع فكر اليسار والمعتقل السياسي علاقة مبكرة تكونت – كما قرأت – في سنين صباه. كيف تذكرها؟

القويري: أذكرها مقترنة بالألم والدهشة في نفس الوقت، فالاضطهاد والحبس والمضايقة سنة 1953 تركت آثاراً سيئة. وعموماً فالمعتقل كان مدرسة بالفعل تضم كبار كتاب مصر وتضم الشيوعيين والتقدميين المصريين في معتقل الأوردي، وهو يشبه المعسكر بعنابره وجهامته وبداخله الدكتور يوسف إدريس، والأستاذ عبد الرحمن الخميسي، والشاعر المبدع فؤاد حداد، والرسام المعروف زهدي، ومعلمو البكباشي عبدالناصر، ومعروف أن الاعتقال لا يتم إلا في ظل الأحكام العرفية. الحكاية أني وجدت منشورات فقرأتها ثم رميتها في البيت، وعندما فتشوا البيت قاموا باعتقالي علي رغم عدم اقتناع النيابة، لانتفاء توفر الأدلة، وهذا السجن المؤقت على ذمة التحقيق كان في سنة 1953، أما المعتقل سنة 1954 و1955 فكان مخصصاً للتقدميين والكتاب المعارضين والشيوعيين، وعندما كنت هناك كان الرفاق في المعتقل يسألونني عن سبب اعتقالي والتنظيم الذي أنتمي إليه فقلت: منظمة الحزب الشيوعي، وعندما سألوني عن اسمي الحركي قلت لهم بصبيانية اسمي ماكسيم غوركي، فقالوا لي هذا الاسم غير موجود وبإمكانك أن تغادرنا، وقد كان المعتقل في الواقع دليلاً على كوني لم أكن على علاقة بأي تنظيم، وقراءتي للمنشورات التي وجدت عندي ليست دليلاً على أنني أتبناها، وقد كان المعتقل دليلاً قاطعاً على أني لم أكن شيوعياً، رغم جاذبية المنهج الماركسي من الناحية العلمية، فبصدد الجدلية المادية والمادية التاريخية نجد أن مورغان مثلاً في الولايات المتحدة، وهو عالم اجتماع أمريكي كلاسيكي وليس شيوعياً، قد أثّر في فكر الاثنين الذين صنعا وأسّسا الماركسية في التاريخ وهما الدكتور كارل ماركس، وله دكتوراه في الاقتصاد والفلسفة، وفريدريك أنجلز، وهو مليونير إنجليزي، هما لا ينتميان للبروليتاريا، فهما من مثقفي الطبقة العالية، والدليل ما قاله ماركس عندما ناقشه أنجلز في المادية الجدلية، فقال: أنا لست ماركسياً؛ فماركس نفسه ينفي صفة الماركسية حين تناقش مع أنجلز في مكتبة المتحف البريطاني، وهو يقصد بذلك أن الماركسية ليست تعصباً. ونشوء الاتحاد السوفييتي في الواقع تم على أيدي البلاشفة وهم ليسوا عمالاً، وديكتاتورية البروليتارية في حد ذاتها تفتقر إلى السند الجدلي، فالذين قاموا بالثورة هم البلاشفة، وجذورهم غير عمالية، وكذلك هم الذين غيروا الاتحاد السوفييتي إلى دول الرابطة.. وقالوا بعد ما أعطينا “برستيج” تاريخي للطبقة العاملة تأتي وتحاصرنا وتطلب زيادة الرواتب، فلنحل إذا هذه المسألة. وكان لا يمكن لأي قوة في العالم أن تخترق الستار الحديدي وتسقط النظام، فالبلاشفة هم من أسقط النظام.

الجنافي: رصعت نصوص إبداعكم سماء الأدب والفكر العربي في أهم أطوار تشكله، فتطلع إلى أفاقها عشاق الفكر والكلمة لتحتجب إثر ذلك بغيابكم عن المشهد الثقافي الليبي وما آثاره من تساؤلات تبحث حتى هذه اللحظة عن إجاباتها.. لماذا وإلى متى؟

القويري: الإنتاج الأدبي لم يتوقف، ففي الماضي كانت معظم الكتب بعد توقيع العقود لا تصدر، كانت تنتهي المدة دون أن يطبعوا. وأسباب ذلك كثيرة جداً ومتشابكة ومعقدة، وتكون النتيجة أن لا تصدر الكتب، وهناك مؤلفات كثيرة وقعت عقودها ثم انتهت فترة سريانها دون إصدار أي كتاب منها، وهم ليس بمستطاعهم قانوناً الطبع من جديد إلا بتجديد العقود أو إبرام عقود جديدة.

الجنافي: صراع الأجناس السردية إلى ماذا سينتهي في تقديركم؟ وهل أصبحت الرواية الآن هي ديوان العرب؟

القويري: للشعر أسبقية على النثر دونما خصام جدي. لكن النثر العربي تقدّم وتطوّر بأسرع مما طرأ على الشعر؛ فقد انفتح النثر العربي على آفاق أرحب وجلب للأدب العربي من الفكر العالمي والآداب العالمية أنواعاً نثرية متباينة، ومنها الرواية، منذ القرن التاسع عشر حينما طبع الأديب المصري حبيب حنا بحروف “المونوتيب” رواية “شمس الضحى” والأديب حبيب حنا برغم أنه مؤلف ضئيل الصيت لكنه رائد كبير من رواد التأليف الروائي في الأدب المصري، والأدب العربي عموماً. ودليلنا على غزارة النثر هو مجال الترجمة حيث يتضح أن ما نقله المترجمون من النثر العالمي بكافة أجناسه إلى اللغة العربية هو أكثر بما لا يقاس مما نقلوه من الشعر العالمي وأشعار الأمم الأخرى. من ناحية أخرى من المتعذر تماماً أن يصير “ديوان العرب نثراً”، فهو منذ بدايته كان شعراً، وبالتالي فالرواية الآن تصوّر للقراء أحوالاً معاصرة وتعبر عنها بالنثر الحديث، وليس بوسعها أن تكون ديواناً للعرب.

الجنافي: السيرة الذاتية أضحت اليوم جنساً أدبياً توثيقياً يحفظ للذاكرة الوطنية والإنسانية تاريخ أعلامها من كتاب وأدباء.. هل يفكر القويري في صياغة سيرته الذاتية؟

القويري: في الواقع أنني أحاول قدر الإمكان كتابة فن أدبي تتحوّل فيه الذكريات فتغدو رواية أدبية بالمعنى المعروف للرواية كجنس أو نوع من أنواع الأدب، والسيرة الذاتية في الأدب الليبي تعطينا فكرة عريضة جداً عن كثير من ظروف التطور الشخصي والظروف العامة.

الجنافي: “لم أقرأ عن أديب يعيش الأدب والفن مثله حتى في الحديث مع الأصدقاء! لقد علمني أخلاق الأدب”.. بهذه الكلمات وصفك إبراهيم الكوني؛ بينما يصفك أحمد ابراهيم الفقيه بأنك “كاتب من قماشة المبدعين النوابغ”.. بماذا تعقب؟

القويري: ثمة عبارة أخرى نشرها الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه في جريدة أويا الليبية قبل سنين كثيرة تحت عنوان “مفتي الفضائيات” جاء فيها: “إلى القابض على جمر الكتابة الأستاذ الأديب يوسف القويري مثال الالتزام والمسئولية.. الذي كان شاهداً مثلي في مطلع الستينات”، وبشأن إبراهيم الكوني فهو صديق في طرابلس الستينات، وأذكر في فترة من الفترات قلت له: ما رأيك في الدراسة في الخارج، وبالفعل ذهب إلى موسكو وبعث لي كارت بوستال به صورة مكسيم غوركي، يقول: أنا وصلت اليوم إلى موسكو وأشعر بالغربة، وقلت له: ستعتاد ذلك، وبالفعل استمر حتى تحصل على ليسانس الآداب ثم تزوج بفتاة روسية لم تبقى معه طويلاً.

الجنافي: يشير إليك الباحث عبدالمنعم المحجوب قائلاً أننا “أضعنا تلك الفرصة العظيمة التي أتاحها لنا الأستاذ يوسف القويري بكتابه “من مفكرة رجل لم يولد”، فلم نتفاعل سوى بشكل احتفالي عابر مع هذه الرواية التي كان علينا أن نجعلها مدخلاً لتأسيس ودراسة علم المستقبليات Futurology في ليبيا، أو ربما أدب المستقبل والرواية العلمية التي لا تحظى بتقدير كبير لدى الأدباء الليبيين “.. ما تعليقك على ذلك؟

القويري: الدكتور عبدالمنعم المحجوب صديق وأنا أشكره. وقد اختلفت الآراء حول كتاب “من مفكرة رجل لم يولد” فهناك من صنف رواية رجل لم يولد ضمن الأدب المصري باعتباري من مواليد مصر، وباعتبار إنني تلقيت تعليمي في مصر، وقد خلص إلى أن هذه الأسباب دليل على ولادة هذه الرواية خارج أدب الرواية الليبية بحسب كلامه!. وقد صدرت من كتاب “من مفكرة رجل لم يولد” ثلاث طبعات. الطبعة الأولى سنة 1971م منشورات “دار مكتبة الفكر” الليبية. والطبعة الثانية في تونس من منشورات “الدار العربية للكتاب” سنة 1982م. والطبعة الثالثة أصدرتها “دار الرواد” و”دار الجيل” اللبنانية سنة 1997م، ونوهت في تلك الطبعة بجهود صديقي الأستاذ الفاضل حسام يوسف الفطيمي التي بذلها في المراجعة العامة لمواد الطبعة الثالثة وبالذات تصويب الأخطاء المطبعية. وفي مجلة صباح الخير المصرية مؤسسة روز اليوسف كتب الروائي المصري المعروف الأستاذ عبداللـه الطوخي سنة 1972 مقالة في ثلاث صفحات وصف فيها “من مفكرة رجل لم يولد “بأنها رحلة إنسانية عظيمة” نحو المستقبل.
وفي سنة 1973م أذاعت محطة “بي بي سي” باللغة الإنجليزية مختارات من هذا الكتاب. وحذت حذوها الإذاعة الفرنسية في نفس السنة فأذاعت يوميات مستقبلية من هذا الكتاب باللغة الفرنسية.
ومنذ ثلاثين سنة تقريباً قامت المستشرقة البولندية الكبيرة Eva Machut-Mendecka أستاذة كرسي الآداب الشرقية بالجامعة في العاصمة البولندية بمطالعة الطبعة الأولى من كتاب “من مفكرة رجل لم يولد” ثم كتبت حوله دراسة تحليلية نشرتها في ذلك الحين وقد وردت الإشارة إلى تأريخ تدوينها التحليلي في إحدى محاضراتها القيمة. أما في تشيكوسلوفاكيا فقد ترجم المستشرقان التشيكيان الكبيران الدكتور “كارل” ورفيقه مختارات من كتاب “من مفكرة رجل لم يولد” في العاصمة براغ، ونشرا ذلك في كتاب عن الآداب العربية بعدما أضافا إليه دراسة عن المفكرة، وفي أسبانيا أذاع راديو بوبلار تعريفاً بالمنتجات الأدبية للمؤلف.

الجنافي: ما هي قراءتك النقدية للتناص أو التفاعل الإبداعي الليبي عبر الأجيال طيلة العقود الخمسة الماضية؟

القويري: هذا بشكل أو بآخر موجود، وينبغي إذا انقطع إعادة وصله، كان التناص والتماهي موجود في ماضي العقود في الشعر وفي القصة، وكنا دائماً نلتقي بالأخوة الاستاذ عبدالقادر بوهروس، وخليفة التليسي وعلي الرقيعي، وكانت التأثرات بالإضافة إلى كونها تأثرات محلية يصنعها أو يتيحها النقاش والحوار فهي أيضاً تأثرات بالإنتاج الأدبي المصري الذي كان يأتينا من القاهرة محتوياً على الآداب العربية وآداب الأمم الأجنبية.

الجنافي: ما هي قراءتكم للمشهد الثقافي الليبي؟

القويري: نأمل خيراً!

الجنافي: تنقل القويري محرراً ومديراً للتحرير بين صحف فزان، وطرابلس الغرب، والمساء الليبية، والحقيقة، ومجلة الإذاعة، والرواد، وليبيا الحديثة، والميدان.. مسهماً بمقاله ودراسته وقصته القصيرة ونقده في التأسيس لبدايات الصحافة الليبية.. أدب القويري كان مساهماً في بعث تلك الحقبة الصحفية بما مثلته من أهمية طورها التأسيسي والريادي.. كيف تتذكرونها؟

القويري: في الواقع من ناحية المواقع الإدارية لم تكن من أهدافي على الإطلاق بقدر ما كان يهمني في المحل الأول والأخير المادة الأدبية نفسها، ولم أكن في أي فترة من الفترات أسعى أو أعمل لأحوز مواقع إدارية في الصحف، أما الصحافة في تلك الفترة فقد كانت صحافة جامعة، وكان الاهتمام بالأدب ملحوظاً في الصفحات الأدبية والمقالات والمجادلات التي اندلعت بين الأطراف ذات الآراء المتباينة.

الجنافي: اقترنت مناجاة الورق لدى بعض الأدباء بطقوس وأماكن وأزمنة معينة.. ماذا عن القويري؟

القويري: أشهر أديب كبير في البلدان العربية يعمل بهذه الطقوس هو نجيب محفوظ، فهناك من يحب الكتابة في الليل أو في النهار، ونجيب محفوظ كان مبرمجاً نفسه برمجة دقيقة جداً لدرجة أن كل شيء له وقت محدّد، وهذه حالة من النظام شديدة الغرابة، ولا أظن أنها ستتكرّر!… أنا شخصياً ليست لدي طقوس معينة للكتابة.
الجنافي: الأزمة السياسية الليبية بتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية تمر اليوم بأشد مراحلها خطورة وتعقيداً.. ما السبيل لتجاوزها؟

القويري: هناك طرق كثيرة للخروج من الأزمة، وأحد تلك الطرق هو المصالحة التي تشمل كل الليبيين باستثناء من تورطوا في جرائم تستدعي العقوبة.

الجنافي: “إن تطور البلدان لا يمضي بصورة متوازية، فهناك عوامل اجتماعية وتاريخية واقتصادية تتحكم إلى حد كبير في مسيرة التطور”.. بهذا فسرتم تطور التاريخ الإنساني في دراسة لكم بعنوان “الشخصية الليبية”.. إلى أين وصلت عوامل التطور بالشخصية الليبية؟

القويري: بالنسبة للبلدان العربية بصورة عامة هناك تركيبات اجتماعية، مختلفة فتاريخ ملكية الأرض مثلاً في مصر غير تاريخ ملكية الأرض في ليبيا، والطبقات الاجتماعية كطبقة الفلاحين المصريين ليس لدينا في ليبيا مثلها طبقة فلاحية بالمعنى الموجود في مصر، والذي بدأ الحديث عن الشخصية الليبية هو في الواقع معالي الأستاذ المرحوم عبدالحميد البكوش، وكان وقتها رئيساً للوزراء في العهد الملكي، وأنا كتبت فعلاً عن الشخصية الليبية في فترة رئاسة عثمان الصيد للوزراء، وكان والي طرابلس، وكان نائب الملك في الولاية فاضل بن زكري، والشخصية الليبية كمفهوم نَضَجَ بالضرورة، والدليل على ذلك أن الاقتصاد الطبيعي الخاص بالقبيلة انتهى، ووجدت القبيلة نفسها بواقع الأجيال الجديدة من أبناءها الذين درسوا في الخارج ورجعوا دكاترة وأساتذة واختصاصين ليشتغلوا في مهن مختلفة، ولم يبق للقبيلة – كبرهان عن تطورات الواقع الراهن – سوى الروابط العشائرية، وستبقى روابط القربى هذه إلى ما شاء اللـه.

الجنافي: “من مفكرة رجل لم يولد” هل ما تزال تتجاوز عصرنا؟ أم أن واقعنا اليوم قد تجاوزها بكثير؟

القويري: إن الأسرة المفترضة في “من مفكرة رجل لم يولد ” مقذوفة إلى مستقبل ليس بعيداً، وكما دوّنت في المفكرة ليس الهدف هو التنبؤ بما سيكون عليه العلم بل إن الكثير من محتويات الكتاب هو في طريقه الآن إلى التحقق. فالعلم يثب وثبات واسعة جداً لا يتصورها الخيال نفسه، وهي نقلات فائقة الأهمية لدرجة أن الخيال العلمي يقع في حيص بيص لأنها تتجاوز تصوراته!

الجنافي: جمود المسرح الليبي إلى ماذا ترجعونه؟

القويري: عندما كانوا هواة؛ أي عندما كان المسرح فرقاً أهلية فقط، كانوا أكثر حماساً، وكانت هذه الفرق تقدم النص لإجازته من الناحية الأمنية، ولكنها في نفس الوقت كانت تقول على الركح كلاماً خارج النص، وكان هذا يعجب المتفرجين المشحونين بهموم كثيرة، ولكن للأسف الشديد.. كيف يمكن للمسرح الليبي أن يكون مسرحاً حقيقياً بدون وجود نص مسرحي أساساً؟ وليس مجرد توضيبات خاصة بالهندسة الضوئية والمناظر، لابد من وجود نص مسرحي درامي فعلاً بحيث يجعل الصالة نفسها تتطور، فنشد المتفرج الجالس على الكرسي بدارما حقيقية وليست تابلوهات فقط.

الجنافي: ماذا عن مسرحيتكم “القادمون”؟

القويري: إن نفقات إخراج هذه المسرحية باهظة، فهي تحتاج إلى أشياء كثيرة جداً، بالإضافة إلى أن “القادمون” بحاجة إلى ممثل جديد وليس مجرد ممثل يصرخ، بل يؤدي تأدية درامية.. ويصعد مع الخط الدرامي.. وموضوع “القادمون” خيالي يتكلم عن عصر البخار، ولأن المسرحية كيان فلا يمكن اختصارها في كلمات، فهي ككيان إما أن تقرأ أو تشاهد، ومسرحية “القادمون” تعرضت للتزوير الخبيث بعد طبعتها الأولى الصادرة عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، وهي موثقة في الإيداع المحلي والإيداع الدولي “ردمك”، وقد تناولت في مقدمة طبعتها الثانية مسألة تزوير النسخ الإضافية بالتفصيل. ومعلوم أن الطبعة الثانية صدرت عن وزارة الثقافة وتم توزيعها في المعارض الدولية خاصة معرض القاهرة منذ سنوات قليلة.

الجنافي: المرأة في ليبيا هل لا تزال ترى العالم عبر شقوق عزلتها الإجبارية، أو كما وصفتها في القصة القصيرة “البنت” عبر ثقب الفراشية الضيق الموارب في حذر، وهي تخوض لحظات الصراع قبل أن يبتلعها الميدان الكبير.. أم أنها قد باتت قادرة على تجاوز تخلفها؟

القويري: أظن أنك ستوافقني على أنه كان هناك توازن في الماضي؛ فالفراشية زي تاريخي مثل السفساري وغيره، وكانت معظم نوافذ البيت مطلة على الداخل، وكان الحوش رغم عزلته يموج بالحياة، وكان الرجل والمرأة أكثر توازناً من الآن، وقد أفرزت المهن – وبالذات مهنة التمريض ومهنة التعليم – زياً خاصاً وتاريخياً وهو المعطف و البيشا ، وتلك تطورات تمت رغم كل الظروف، والملاحظ أن أي وثبة تحررية لابد أن تضع في اعتبارها التوازنات القديمة كي تكون امتداداً متدرجاً، ولا تكون هناك مشاكل. وعدم اشتراك المرأة في العمل أو الإنتاج الاجتماعي كان سبباً رئيسياً في تخلف المجتمع؛ في مصر لم تكن هناك مشاكل في خروج الفلاحات واختلاطهن وسفورهن؛ فالعمل يستغرقهن بالكامل منذ شروق الشمس إلى غروبها. وقد عالجت هذا الموضوع الشائك الحساس في كتاب “مدخل إلى قضية المرأة” من منشورات الأمانة العامة للثقافة والإعلام سنة 2006 في طرابلس.